فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله الحق: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} هذا القول يدل على أنها طائفة تدور حول حركة واحدة، ويدل على أن النفاق نفاق متفق عليه، وليس كل واحد منهم ينافق في نفسه، لا إنها طائفة المنافقين، وقد كوَّنوا جماعة، ولهم سياسة مخصوصة، ولهم كلام مخصوص ولهم وحدة قول، تعرفهم من قول الحق {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}.
ونعرف أن الحق هو الشيء الثابت، وما دام ثابتا فهو لا يتغير، وقضية الحق فيه تكون مطردة، فالله حق، خلق السماوات والأرض، وكل الكون بالحق، أنزل كتابه بالحق، كله حق، فهم يظنون بالله غير الحق مع أنه حق، ونشأ الكون منه بقانون حق، واستمرت سنن الله في الكون بالحق، وهو دائما ينصر الحق، وهم يظنون بالله غير الحق، يقولون: ربنا لم ينصرنا على الرغم من أنه وعدنا بالنصر، وتناسوا العناصر التي جعلها الله أسبابًا للنصر، إنها سُنَّة الله وسُنَّة الله تتحقق ولو على أحبابه، لقد خالفوا أمر الرسول، فلابد أن ينهزموا، فلا مجاملة لأحد، فالذي يخالف لابد أن يأخذ جزاءه؛ لأن هذا هو الحق.
كان يجب أن يقولوا إن الحق واضح لدرجة أن أحبابه ومعهم رسوله حينما خالفوا عن أمر الله الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم طبق الله عليهم سُنته إذن فهي سنة بالحق، لكنهم ظنوا بالله ظن الجاهلية، والمقصود به إما ظن أهل الجاهلية؛ وإمَّا أن تكون الجاهلية عَلَمًا على السَّفه كله، وهذا الظن له نضح سلوكي.
{يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} أي هل انتصرنا أو ظفرنا أو غلبنا أو أخذنا غنائم؟ أو يكون قولهم: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} مقصودا به: أننا خرجنا إلى المعركة بدون رأينا؛ فقد كان من رأينا ألا نخرج وأن نظل في المدينة وعندما يدخلونها علينا نحاربهم.
{يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} هم لم يمتلكوا البصيرة الإيمانية ولم يعرفوا لماذا لم ينصرهم الله، هم فهموا أنهم لم ينتصروا؛ لكن في عرف الحق أنه انتصار؛ لماذا؟ لأن المعركة أثبتت أن المبدأ إن خولف فلا نصر، إذن فالإسلام قد انتصر، ولكن الذي انهزم هم المتخاذلون عن منهج الإسلام، وهذا نصر للإسلام في ذاته. ولذلك يجب أن نفرق دائما بين المبدأ الإسلامي والمنسوبين للمبدأ.
إياك أن تأخذ الحكم على المبدأ من المنسوبين للمبدأ، فلا يكون المنسوبون للمبدأ حُجَّة على الحكم في ذاته إلا إذا كانوا ملتزمين به؛ لأن الله حينما شرع دينًا سمّاه الإسلام ليحكم حركة الحياة في الناس فهو قد قنّن وحرّم فيه أفعالًا، وما دام قد قنن وحرم فيه أفعالًا فمعناه أن المؤمنين المسلمين الذين انتسبوا له من الممكن أن يخالفوا بأفعالهم تلك الأحكام، فعندما يقرر الإسلام جلد أو رجم الزاني والزانية، وحينما يشرع الإسلام قطع يد السارق أو السارقة، وحين يشرع الإسلام تلك العقوبات للجرائم، فمعنى ذلك أنه من الجائز أن تحدث تلك الجرائم، فإذا ما حدثت فأنت لا تأخذها من واقع مُجَرَّم لتحكم به على الإسلام، لا تقل إن الإسلام أباح السرقة بل قل: سرق مسلم ووضع الإسلام عقوبة صارمة عليه وهي قطع يده.
{يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} وهذه هي الفضيحة لهم، فماذا كانوا يريدون أن يكون لهم؟ كانوا يريدون ألا يخرجوا للمعركة فقالوا: لو كان لنا من الأمر شيء واتبعنا منطقنا، لما جئنا الموقعة هنا وحصل لنا ما حصل، هذه واحدة، أو لو كان لنا شيء من الظفر الذي وعد الله به محمدًا وأصحابه ما قتلنا ها هنا، فعلى الرأيين يصح المعنى، فكأنهم أرادوا أن يعللوا القتل أو الموت بأسبابـ، ومن الذي قال: إن القتل أو الموت يتعلق بأسباب؟ إن الموت قضية تطرأ لإعدام الحياة، وهي مجهولة السبب ومجهولة الزمان ومجهولة المكان ومجهولة العمر.
إذن فما دامت المسألة مجهولة فلماذا ربطتم بين القتل والموقعة؟ وهل لم تروا إنسانًا مات وليس في موقعة؟ ألم تروا إنسانًا قد قُتل وليس في موقعة؟ لو أن القتل لا ينشأ إلا في مواقع قتال الحرب لكان لكم أن تقولوا هذا، إنما القتل والموت قضية عامة لها واقع في حياتكم.
هذا الواقع لم يرتبط بأرض، ولم يرتبط بزمان، ولم يرتبط بسن، ولم يرتبط بسبب، وإنما الموت يأتي لأنك تموت، انتهت المسألة.
إذن فهم عندما ربطوا القتل والموت بالموقعة فهم قد خرجوا عن القضية الإيمانية. ولذلك يأتي الرد من الحق بأمر واضح للرسول صلى الله عليه وسلم: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}. فكأنك أيها الميت قد تكون أَحْرَص على لقاء الموت من حِرْص الموت عليك. بدليل أننا قلنا: إن الإنسأن يكون مريضًا، ويلح على أن تُجري له عملية جراحية فيعتذر الطبيب قائلا: عندي عدد كبير من الجراحات فانتظر شهرًا، فيأتي له المريض بوساطة لكي يقبل الطبيب إجراء العملية الجراحية ويلح عليه. ويعلى أجر الطبيب وقد يموت المريض. إذن فهو يلح على الموت أو لا؟ أنه يلح على الموت.
يقول الحق: {لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} وكلمة بَرَزَ تدل على اندفاع حركي، فمعنى: بَرَزَ من الصف؛ يعني أن الصّف له التئام واقعي، والذي يبرُز إنما يقوم بحركة مخالفة للصف، هذه حركة.
{قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَالله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} والذي يبرز إلى المضجع هو من يخرج من مكان الاستقرار، وإلاّ فكيف يكون الابتلاء لمن يقدر الله سبحانه أن يحملوا معركة الإسلام إلى أن تقوم الساعة إذا لم تكن هذه المسائل؟ لابد أن يكونوا قومًا قد عركتهم التجربة، مُمحصين بالأحدث حتى لا يكون مأمونًا على حمل السلاح في الإسلام إلا هؤلاء الصفوة المختارة.
فساعة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج، وينتهي إلى أن يخرج إلى أحُد، نجد جماعة يتخاذلون بوساطة ابن أبي، هذه أول تصفية، وبعد ذلك ينقسم الرُماة، وهذه تصفية أخرى، فريق يظل وفريق ينزل للغنائم، وبعد ذلك يُشَاع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قُتل، هذه تصفية ثالثة.
{وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَالله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وكلمة ذات الصدور معناها صاحبة الصدور. وفي الصدر يحرص الإنسان على إخفاء الأمر الذي يحب أن يحتفظ به لنفسه بِحرْص كحرص الصاحب على صاحبه، كأن الصدر حريص على ألا يسلم ما فيه، ولكن الله سبحانه وتعالى يفضحهم أمام الناس، ويفضحهم أمام نفوسهم؛ فقد يجوز أن يكونوا مغشوشين في نفوسهم. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَالله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}.
أخرج ابن جرير عن السدي: أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين، فواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا من قابل فقال لهم: نعم. فتخوّف المسلمون أن ينزلوا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا فقال: انظر فإن رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم، وجنبوا خيولهم، فإن القوم ذاهبون. وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم، وجنبوا على أثقالهم، فإن القوم ينزلون المدينة. فاتقوا الله واصبروا، ووطنهم على القتال. فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعًا عجالًا نادى بأعلى صوته بذهابهم، فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فناموا، وبقي الناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم فقال الله يذكر حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم}.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: أمنهم الله يومئذ بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة قال: سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول الله: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا} قال: ألقي علينا النوم يوم أحد.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد، حدث أنه كان ممن غشيه النعاس يومئذ، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، وسقط وآخذه. فذلك قوله: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا يغشى طائفة منكم} والطائفة الأخرى؛ المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذ له للحق يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية كذبهم إنما هم أهل شك وريبة في الله.
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه والحاكم وصححه وابن مردويه وابن جرير والطبراني وأبو نعيم والبيهقي معًا في الدلائل عن الزبير بن العوّام قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم أحد إلا وهو مميد تحت حجفته من النعاس. فذلك قوله ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا وتلا هذه الآية ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا.
وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن الزبير بن العوّام قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم أحد إلا وهو مميد تحت حجفته من النعاس.
وتلا هذه الآية: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا} الآية.
وأخرج ابن إسحاق وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن الزبير قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا} إلى قوله: {ما قتلنا هاهنا} لقول معتب بن قشير.
وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم أنه قرأ في آل عمران {أمنة نعاسًا تغشى} بالتاء.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود قال النعاس عند القتال أمنة من الله، والنعاس في الصلاة من الشيطان.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: إن المنافقين قالوا لعبدالله بن أبي وكان سيد المنافقين في أنفسهم قتل اليوم بنو الخزرج. فقال: وهل لنا من الأمر شيء؟ أما والله {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} [المنافقون: 8] وقال: {لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل}.
وأخرج ابن جرير عن قتادة والربيع في قوله: {ظن الجاهلية} قالا: ظن أهل الشرك.
وأخرج ابن إسحق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال معتب: الذي قال يوم أحد {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} فأنزل الله في ذلك من قولهم: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله} إلى آخر القصة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك} كان مما أخفوا في أنفسهم أن قالوا: {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن هذه الآية فقال: لما قتل من قتل من أصحاب محمد أتوا عبدالله بن أبي فقالوا له: ما ترى؟ فقال: إنا والله ما نؤامر {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا}.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه سئل عن قوله: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} قال: كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في سبيله، وليس كل من يقاتل يقتل، ولكن يقتل من كتب الله عليه القتل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (155):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان فيه مع ذلك معنى التعليل والتنبيه على أنه غني عن الاختبار، خبير بدقائق الأسرار أتبعه قوله مستأنفًا لبيان ما هو من ثمرات العلم: {إن الذين تولوا منكم} أي عن القتال ومقارعة الأبطال {يوم التقى الجمعان} أي من المؤمنين والكفار {إنما استزلّهم} أي طلب زللهم عن ذلك المقام العالي {الشيطان} أي عدوهم البعيد من الرحمة المحترق باللعنة {ببعض ما كسبوا} أي من الذنوب التي لا تليق بمن طلب الدنو إلى حضرات القدس ومواطن الأنس من ترك المركز والإقبال على الغنيمة وغير ذلك، فإن القتال في الجهاد إنما هو بالأعمال، فمن كان أصبر في أعمال الطاعة كان أجلد على قتال الكفار، ولم يكن توليهم عن ضعف في نفس الأمر.
ولما كان ذلك مفهمًا أن الذين تولوا صاروا من حزب الشيطان فاستحقوا ما استحق ألصق به قوله: {ولقد عفا الله} أي الذي له صفات الكمال {عنهم} لئلا تطير أفئدة المؤمنين منهم، وختم ذلك ببيان علته مما هو أهله من الغفران والحلم فقال معيدًا للاسم الأعظم تنبيهًا على أن الذنب عظيم والخطر بسببه جسيم، فلولا الاشتمال على جميع صفات الكمال لعوجلوا بأعظم النكال: {إن الله غفور} أي محاء للذنوب عينًا وأثرًا.
ولما كان الغفر قد يكون مع تحمل نفاه بقوله: {حليم} أي حيث لم يعامل المتولين حذر الموت معاملة الذين خرجوا من ديارهم- كما تقدم- حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله: {قل لو كنتم في بيوتكم} انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة، فبيّن لهم أنه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم، فلم يتفطّنوا إلى السبب، والتبس عليهم بالمقارن، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطئ وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح، وتزكية النفوس، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين، وتعظيمه عندهم، وتنفيرهم من الشيطان، والأفعاللِ الذميمة، ومعصية الرسول، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين.
وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله: {ثم صرفكم عنهم} [آل عمران: 152] الآيات.
وضمير {منكم} راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا.
وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة. اهـ.